بعد سنوات من الفساد المستشري الذي ضرب كل أركان الدولة ونخر كل أسسها كانت المهمة أمام اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد عسيرة خاصة مع تشعب خيوط واصابع الفساد الذي كان كالأخطبوط الذي يمتد لكل المرافق.
حينها تم اختياره من ضمن ترسانة القانونيين لنزاهته وحياديته التي عرف بها والتي يشهد بها كل من زامله أو عرفه عن قرب. وبدأ العمل في صمت رفقة ثلة من الكفاءات يتتبع خيوط الفساد ملفا ملفا دون اثارة الراي العام أو جلب الاهتمام فحينها كانت اعتصامات القصبة هي مركز الاهتمام.
عرفه الشارع التونسي لما دخل قصر قرطاج أو كما سمي منذ تلك الوهلة "مغارة علي بابا" وهو يكشف الكنوز والأموال التي كنزها بن علي واصهاره ليشيح النقاب عن فترة من الجشع والسرقات والنهب.
جاء في وقت حساس جدا ميز المشهد السياسي التونسي وتم تعيينه للحفاظ على أمانة الشعب والبلاد، لاحقته في الآونة الأخيرة اتهامات خطيرة تفيد بأنه يتستر على الفساد والرشوة...
هو عبد الفتاح عمر رئيس اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول قضايا الفساد والرشوة وهو أستاذ في كلية العلوم القانونية ورئيس الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري وعميد شرفي لكلية العلوم القانونية، تولى من 1993 إلى 2004 مهمة مقرر خاص بلجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة مكلف بحرية الدين والمعتقد، والسيد عبد الفتاح عمر عضو أيضا باللجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بعد أن كان رئيسا سابقا فيها.
منذ توليه منصب رئاسة لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد عمل على محاربة الرشوة والقضاء على كل أشكال الفساد...وسعى إلى توثيق كل ملفات الفساد التي تولى جمعها وتهم أطراف عدة وخاصة المقربين من السلطة، فكانت ولادة تقرير تضمن وثائق مختلفة تهم مجالات عدة حيث تلقت اللجنة منذ إحداثها حوالي 10 آلاف ملف فساد تورط فيها مسؤولين كبار مع النظام السابق...مما أثار بلبلة إعلامية كبرى هاجمه على إثرها العديد من الشخصيات التي أرادت حق الرد واعتبرت أن الوثائق التي تضمنها التقرير لا تمثل اتهاما.
أشار في أكثر من مناسبة إلى أن اللجنة تصدت لكل محاولات الإرباك والتشكيك والتهديد والتخويف التي تعرضت لها وقامت بعملها في كنف احترام أعراض الناس خاصة وأن كل مواطن يتمتع بقرينة البراءة وأن القضاء هو الوحيد الذي له الكلمة الفصل.
اليوم يرحل عبد الفتاح عمر عن سن تناهز 68 عاما بعد أن تعرض لوعكة صحية، تاركا وراءه جبالا من الملفات الشائكة التي تنتظر البت فيها...عبد الفتاح عمر بدأ رحلة القضاء على الفساد وكان أول من دعا إلى إحداث لجنة قارة ومستقلة لمكافحة الفساد والرشوة إيمانا منه أن تفكيك منظومة الفساد والرشوة تعد مسألة شاقة وطويلة وأن الأهم ليس عدد الملفات التي يتم دراستها بل التوصل إلى مساعدة القضاء في حل ملفات متشعبة بالتعقيد.
اليوم فقدت الساحة التونسية رائدا من رواد استقصاء الحقائق حول الفساد بدأ المهمة ثم رحل ليترك المشعل لمن يليه علّه يساهم في تكريس مبدأ التربية على النزاهة والاستقامة التي سعى السيد عبد الفتاح عمر إلى تكريسها.