أثار التصريح الذي أدلى به السيد حمادي الجبالي عن الإعلام ردود أفعال مستنكرة آخرها ما عبّرت عنه نقابة الصحافيين من استهجان لما جاء على لسان رئيس الحكومة في قوله "إنّ المؤسسات الإعلاميّة لا تعبّر عن الإرادة الشعبيّة المجسّمة للانتخابات". و يؤكّد البيان على ضرورة تخليص الإعلام من الوصاية حتّى لا يرتدّ إلى عهد الاستبداد، و يطالب بالكفّ عن التعامل مع المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة باعتبارها حكوميّة فلا هي في خدمة الأغلبيّة و لا هي في خدمة الأقلية ما يضمن لها الاستقلاليّة التامّة و الحرفيّة المنشودة.
لا نعارض النقابة في ما ذهبت إليه عموما، و لكنّنا حين نتساءل عن الأسباب التي دفعت الجبالي إلى قول ما قاله، نلاحظ أنّها تنسجم مع اتّهامات سابقة وُجّهت إلى بعض وسائل الإعلام المرئيّة و المسموعة و المكتوبة الخاصّة والعموميّة على خلفيّة ما تمارسه من ضغط متواصل على طرف معيّن يقابله انحياز واضح إلى بعض القوى المعارضة.
و لعلّنا لا نمانع من القول توصيفا لعمل الإعلاميّين إنّه شهد تطوّرا عجيبا هو أشبه بالانقلاب من التلميع إلى التشنيع، ففي عهد بن علي، كانت وسائل الإعلام بأنواعها في خدمة النظام الاستبداديّ القائم تلمّع "إنجازاته الوهميّة" و تمتدح كلّ أقواله و أفعاله، و لا تجرؤ على قول كلمة حقّ في وجه الجور و الظلم. و بعد الثورة، التي قام بها الشعب من أجل العزّة و الكرامة، ظهر التذبذب واضحا في العمل الصحفيّ بأنواعه و تعالت الأصوات لمحاسبة الفاسدين ممّن قام بأدوار إجراميّة في هذا المجال بمقابل غير زهيد من أموال الشعب التونسيّ، ثمّ سرعان ما أخذت المنابر لونها و نهجها التحريريّ لمهاجمة الإسلاميّين عموما و التشنيع على نواياهم و التشويش على برامجهم الأمر الذي لا ينكره جلّ المراقبين النزيهين. و بعد فوزهم في الانتخابات و تمسّكهم بالوفاق نهجًا لإنجاح المسار الديمقراطيّ الوليد في تونس، تواصلت تلك الحملات دون هوادة و انخرطت فيها حتّى المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة التي صارت تركّز حتّى في نشراتها الإخباريّة على السلبيّ قبل الإيجابيّ و على الهدم قبل البناء.
و صار الشعب التونسيّ في مواجهة يوميّة مع ضيوفٍ أصبحوا فجأة نجوما حصريّين لسهراتهم: بضعة أسماء تتنقّل من قناة نسمة إلى حنّبعل و إلى الوطنيّة، فلا تخلو سهرة واحدة من دخولهم إلى بيوتنا، قائمين بنفس الخطّة و مردّدين لنفس الفزّاعات، حتّى أصبحوا المنظّرين و المحلّلين الأكثر شرعيّة لما يصلح لتونس و شعبها بعد الثورة، و لكنّهم في أغلب الأحيان يشنّعون أكثر مّما يحلّلون و يبشّرون بالخراب و الفرقة، ما يشكّك في نزاهتهم و نزاهة من دعاهم.
و على العموم، لا يمكن لإعلام أن يدّعي النزاهة و الاستقلاليّة إذا لم يفتح فضاءه لأصحاب الرأي و الرأي الآخر، مع التزام الصحفيّ المُحاوِرِ بالحياد التامّ فلا يسقط في تغليب طرف على آخر.
و تتفاوت وسائل الإعلام في كلّ أنحاء العالم في هذا المجال، و لا يمكن العثور على وسيلة واحدة تدّعي أنّها أدركت قمّة النزاهة و الموضوعيّة فحتّى في الغرب حيث يمجّد الإعلام لديهم، نسمع بين الحين و الآخر بفضائح مدوّية.
و في كتاب المفكّر الفرنسيّ باسكال بونيفاس [les intellectuels faussaires ]، يفضح ألاعيب الصحافة بأنواعها، من خلال استضافتها لمن أسماهم "الخبراء في الكذب و قلب الحقائق و تزييف الوقائع من الصحفيّين و المثقّفين عموما بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات و توجّهات أيديولوجية دون أخرى". و يؤكّد بونيفاس أن "عدم النزاهة الفكرية لها نجومها في فرنسا اليوم، وهم يحظون بالتكريس الإعلاميّ ويشتركون في تغذية قدر كبير من الخوف من خطر إسلاميّ مزعوم. و لا تخرج مواقفهم عن مناهضة الإسلام ومساندة إسرائيل، بحجّة محاربة الإرهاب والتطرّف. وتحظى تلك النخبة بحيّز كبير على قنوات التلفزيون وصفحات الجرائد، لتتناول مواضيع مستهلكة يوميّا مثل الهجرة والتطرف والإسلام والأصولية والحجاب والمساجد والعنف والضواحي حتى أصبح المُشاهد والقارئ على ألفة بهذه الوجوه والأسماء.
و الطريف أنّ ما يقوله بونيفاس عن تلك الممارسات في وسائل الإعلام الفرنسيّة يكاد ينطبق بصفة تامّة على ما يمارس في إعلامنا التونسيّ، فمن أراد أن يفهم جيّدا ما يجري في صحافتنا و تلفزاتنا فليقرأ كتاب بونيفاسْ. ففيه فضْح لوَسَاوِسِ الشياطين من الجِنّةِ و الناسْ.
الإعلام التونسي برؤية فرنسيّة: خبراء في الكذب وقلب الحقائق تحولوا إلى نجوم
أثار التصريح الذي أدلى به السيد حمادي الجبالي عن الإعلام ردود أفعال مستنكرة آخرها ما عبّرت عنه نقابة الصحافيين من استهجان لما جاء على لسان رئيس الحكومة في قوله "إنّ المؤسسات الإعلاميّة لا تعبّر عن الإرادة الشعبيّة المجسّمة للانتخابات". و يؤكّد البيان على ضرورة تخليص الإعلام من الوصاية حتّى لا يرتدّ إلى عهد الاستبداد، و يطالب بالكفّ عن التعامل مع المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة باعتبارها حكوميّة فلا هي في خدمة الأغلبيّة و لا هي في خدمة الأقلية ما يضمن لها الاستقلاليّة التامّة و الحرفيّة المنشودة.
لا نعارض النقابة في ما ذهبت إليه عموما، و لكنّنا حين نتساءل عن الأسباب التي دفعت الجبالي إلى قول ما قاله، نلاحظ أنّها تنسجم مع اتّهامات سابقة وُجّهت إلى بعض وسائل الإعلام المرئيّة و المسموعة و المكتوبة الخاصّة والعموميّة على خلفيّة ما تمارسه من ضغط متواصل على طرف معيّن يقابله انحياز واضح إلى بعض القوى المعارضة.
و لعلّنا لا نمانع من القول توصيفا لعمل الإعلاميّين إنّه شهد تطوّرا عجيبا هو أشبه بالانقلاب من التلميع إلى التشنيع، ففي عهد بن علي، كانت وسائل الإعلام بأنواعها في خدمة النظام الاستبداديّ القائم تلمّع "إنجازاته الوهميّة" و تمتدح كلّ أقواله و أفعاله، و لا تجرؤ على قول كلمة حقّ في وجه الجور و الظلم. و بعد الثورة، التي قام بها الشعب من أجل العزّة و الكرامة، ظهر التذبذب واضحا في العمل الصحفيّ بأنواعه و تعالت الأصوات لمحاسبة الفاسدين ممّن قام بأدوار إجراميّة في هذا المجال بمقابل غير زهيد من أموال الشعب التونسيّ، ثمّ سرعان ما أخذت المنابر لونها و نهجها التحريريّ لمهاجمة الإسلاميّين عموما و التشنيع على نواياهم و التشويش على برامجهم الأمر الذي لا ينكره جلّ المراقبين النزيهين. و بعد فوزهم في الانتخابات و تمسّكهم بالوفاق نهجًا لإنجاح المسار الديمقراطيّ الوليد في تونس، تواصلت تلك الحملات دون هوادة و انخرطت فيها حتّى المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة التي صارت تركّز حتّى في نشراتها الإخباريّة على السلبيّ قبل الإيجابيّ و على الهدم قبل البناء.
و صار الشعب التونسيّ في مواجهة يوميّة مع ضيوفٍ أصبحوا فجأة نجوما حصريّين لسهراتهم: بضعة أسماء تتنقّل من قناة نسمة إلى حنّبعل و إلى الوطنيّة، فلا تخلو سهرة واحدة من دخولهم إلى بيوتنا، قائمين بنفس الخطّة و مردّدين لنفس الفزّاعات، حتّى أصبحوا المنظّرين و المحلّلين الأكثر شرعيّة لما يصلح لتونس و شعبها بعد الثورة، و لكنّهم في أغلب الأحيان يشنّعون أكثر مّما يحلّلون و يبشّرون بالخراب و الفرقة، ما يشكّك في نزاهتهم و نزاهة من دعاهم.
و على العموم، لا يمكن لإعلام أن يدّعي النزاهة و الاستقلاليّة إذا لم يفتح فضاءه لأصحاب الرأي و الرأي الآخر، مع التزام الصحفيّ المُحاوِرِ بالحياد التامّ فلا يسقط في تغليب طرف على آخر.
و تتفاوت وسائل الإعلام في كلّ أنحاء العالم في هذا المجال، و لا يمكن العثور على وسيلة واحدة تدّعي أنّها أدركت قمّة النزاهة و الموضوعيّة فحتّى في الغرب حيث يمجّد الإعلام لديهم، نسمع بين الحين و الآخر بفضائح مدوّية.
و في كتاب المفكّر الفرنسيّ باسكال بونيفاس [les intellectuels faussaires ]، يفضح ألاعيب الصحافة بأنواعها، من خلال استضافتها لمن أسماهم "الخبراء في الكذب و قلب الحقائق و تزييف الوقائع من الصحفيّين و المثقّفين عموما بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات و توجّهات أيديولوجية دون أخرى". و يؤكّد بونيفاس أن "عدم النزاهة الفكرية لها نجومها في فرنسا اليوم، وهم يحظون بالتكريس الإعلاميّ ويشتركون في تغذية قدر كبير من الخوف من خطر إسلاميّ مزعوم. و لا تخرج مواقفهم عن مناهضة الإسلام ومساندة إسرائيل، بحجّة محاربة الإرهاب والتطرّف. وتحظى تلك النخبة بحيّز كبير على قنوات التلفزيون وصفحات الجرائد، لتتناول مواضيع مستهلكة يوميّا مثل الهجرة والتطرف والإسلام والأصولية والحجاب والمساجد والعنف والضواحي حتى أصبح المُشاهد والقارئ على ألفة بهذه الوجوه والأسماء.
و الطريف أنّ ما يقوله بونيفاس عن تلك الممارسات في وسائل الإعلام الفرنسيّة يكاد ينطبق بصفة تامّة على ما يمارس في إعلامنا التونسيّ، فمن أراد أن يفهم جيّدا ما يجري في صحافتنا و تلفزاتنا فليقرأ كتاب بونيفاسْ. ففيه فضْح لوَسَاوِسِ الشياطين من الجِنّةِ و الناسْ.