كليّة منوبة أو "المومس العمياء":
ليس الخَبَر كالخُبْر، لا أعجب ممّا يحصل اليوم في كليّة منوبة وأنا جامعي من أكثر من عرف تفاصيلها الصغيرة حيث تكمن الشياطين فقد زاولت الدراسة في رحابها من السنة الأولى إلى الدكتورا...
يمكنني أن أقول باختصار إن كلية منوبة هي بمثابة "المومس العمياء" بعبارة الشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب فقد تداول على اغتصابها أكثر من فاعل مشبوه فراج عهرها وعارها ولم تعد منارة علوم وفنون وإنسانيات ولا مشكاة أنوار كما يراد بشعارها، لقد تحالف عليها النّظام البائد واليسار السّائد فكانت أهمّ مسرح لـ"تجفيف المنابع" وتواطأ على هذا الفعل وتورّط فيه أساتذة وموظفون وعملة وبعض الطلبة فغرسوا فيها نباتات غريبة أنتجت أشجارا بلا أوراق...
ولكي لا نتيه في التلميحات والإيحاءات أقول إنّ كلية منوبة منذ دخلتها لم تحتضن من المحاضرات والندوات والأمسيات بقدر ما احتضنت من الحفلات والمهرجانات التي كان الغاية منها تهميش العقل وإفساد الذوق وتكريس الرّداءة والدّناءة وتشهد مدارج ابن خلدون وطه حسين وخير الدّين وحتّى المطعم الجامعي على ذلك حيث كانت تنظّم الحفلات ومسابقات الرقص وملكات الجمال وحتى ملوك الجمال من أشباه الرجال...
كل شيء يمكن أن تشاهده في أرجاء الكليّة...ففي المشهد اليومي المألوف: طالب يدخّن بشراهة ويترشف قهوة كامل اليوم وآخر يعبث بواق ذكريّ وآخر يزوّد زميله بالمخدّرات سرّا وآخر يجادل في مباراة كرة قدم وآخر يختلي بزميلته "ولا تسأل عن الخبر"...وآخر...وآخر لكنّ طالبا يقرأ كتابا فهو من الغرباء يشذّ وينأى عنه القرباء... . لقد نهب من الكتب ما يعادل ما قرئ من مكتبة الكليّة الضخمة ولم يعد طلبتها يقبلون على قراءة كتبها ودوريّاتها فالتحصيل الإضافيّ لم يعد غاية وقد همّش الطالب وضاع المطلوب... وقد سادت الوسط الجامعي تقاليد أكاديمية "عريقة" جوهرها اعتماد النفاق والوصوليّة والرشوة والوشاية وشراء الذمم أساليب للنجاح في الدراسة والتدريس فكم من إشراف علمي كان لغايات الابتزاز وكم من ترقية زكّاها التواطؤ وكم شهادة نالتها طالبة بالإيقاع والوقاع...
ولئن تصحّر نتيجة لذلك، الفضاء الجامعي وعجز عن احتواء كفاءات كثيرة همّشت أو أقصيت أو هجّرت قسرا فإنّ حروبا باردة وساخنة تدور رحاها بين الأساتذة في فصول الكليّة ومكاتبها، وفي وحدات البحث وفي المقاهي، في المكالمات السريّة والعلنيّة عن الريادةّ والقيادة والنّفوذ والصّورة الوهميّة فتضطرّ الأجيال الجديدة من الناشئين والباحثين إلى الانخراط في ولاءات وأحلاف قد تفتح لهم أبوابا لن تفتح لغيرهم في الوظيفة والترقية والسّفر...وقد توصد دونهم إذا لم يفهموا قوانين اللعبة وخفاياها...وما أكثر ما فهمت الطالبات الجميلات هذه اللّعبة وما أكثر ما فُضّلن على غيرهن من الطلبة لغاية في نفس الأستاذ...
فلا تصدّقوا ما يقوله بعض الأساتذة الجامعيين في وسائل الإعلام فليس بدافع الغيرة على الجامعة يتباكون ويحتجّون ويعتصمون إنّما هم أشبه بالسماسرة وقطاع الطرق يخشون فقدان صفقاتهم التي كانت تعقد في أروقة الكليّات. ولا تصدّقوا ما يدّعونه من ريادة فكريّة فهم يكرّرون ولا يبتكرون، يلوكون ما تجاوزه الغرب، وينشرون ثقافة التغريب والتّخريب.. ولا تطمئنّوا إليهم إذ يدّعون الوطنيّة فقد لاحظتم حرصهم على توجيه الرّأي العامّ إلى قضايا ثانويّة هي ترف للخاصّة وتعال عن شواغل العامّة... فمن صادق السّلطان بالأمس لن يصدق في المعارضة اليوم ومن استغلّ نفوذه لجمع الثروة لن يصدق في خدمة أهداف الثورة...
لا عجب أن يكون من إفرازات هذا الواقع ما نشهده اليوم من تطرّف طلبتها يسارا أو يمينا فقد هيّأتهم الجامحة، ولا تقولنّ الجامعة، للـ"خروج" منها أو عنها وليس للـ"تخرّج". ولا تأسفنّ على ترتيب جامعاتنا المهين من بين جامعات العالم فهي لا شك ستكون الأولى لو اعتبرناها مراقص وملاهي أو علبا ليليّة لتزجية الوقت فهكذا أرادوها وخطّطوا...وإن هذا إلّا غيض من فيض ولي عود.