لا نفهم مبررات هذا الهجوم الشرس الذي يتعرض له الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بعد الفتوى التي اطلقها وحرّم فيها زيارة القدس المحتلة، وتأكيده بأن المدينة المقدسة لن تعود الا بالمقاومة.
الدكتور القرضاوي كان يرد على دعوة اطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس للمسلمين بشد الرّحال الى القدس المحتلة، للتواصل معها وكسر العزلة الاسرائيلية، وهذا من حقه، لأن زيارة العرب والمسلمين للمدينة المقدسة ستصب في مصلحة التطبيع، وستخفف الضغوط على اسرائيل عبر الإيحاء بأنها دولة منفتحة على الأديان الاخرى، وان المدينة يجب ان تظل موحدة تحت سيادتها.
الرئيس عباس ينطلق في دعوته هذه من رغبته في تحدي سياسة الأمر الواقع الاسرائيلية التي تريد عزل المدينة والاستفراد بها وقطع صلاتها مع العرب والمسلمين، واظهار الدعم العربي والاسلامي لأهل المدينة من خلال دعم اقتصادهم وبما يؤدي الى تعزيز صمودهم.
نختلف مع الرئيس عباس في هذا التوجه، لأن الاسرائيليين لن يسمحوا للعرب والمسلمين بهذه الزيارة للمدينة المقدسة، اذا كانت تعتقد، اي اسرائيل، انها تتعارض مع مخططاتهم لتهويدها وهدم المسجد الاقصى لأقامة هيكل سليمان المزعوم على انقاضه. فقادة اسرائيل ليسوا على هذه الدرجة من الغباء، فإسرائيل هي التي تتحكم بمن يدخل او يخرج من الاراضي الفلسطينية المحتلة، والسلطة الفلسطينية ليس لها اي رأي في هذا الصدد، وربما يفيد التذكير بأنها سحبت تصريح التنقل الذي كان يستخدمه الرئيس عباس نفسه داخل مناطق السلطة او خارجها.
فإذا كان مئات الآلاف من ابناء الضفة الغربية، ناهيك عن ابناء قطاع غزة، ممنوعين من زيارة المدينة المقدسة، والصلاة في أقصاها، وهم يتواجدون على بعد امتار منها، فكيف ستسمح السلطات الاسرائيلية لمئات الآلاف من العرب والمسلمين بزيارتها؟
' ' '
زيارة العرب والمسلمين للقدس المحتلة ستخدم الاقتصاد الاسرائيلي اكثر من خدمتها لاقتصاد ابناء القدس، فأي زائر يلبي نداء الرئيس عباس سيضطر للذهاب الى السفارات الاسرائيلية للحصول على تأشيرة الدخول مقابل رسوم مالية، والتخاطب مع المسؤولين الاسرائيليين فيها، وهذا تطبيع واضح.
وماذا لو قرر الفلسطينيون في مخيمات الشتات في لبنان والاردن والعراق ومصر التوجه الى القدس المحتلة، تلبية لنداء رئيسهم بأعداد كبيرة، فهل ستسمح لهم اسرائيل بتحقيق هذه الامنية، والاكثر من ذلك هل ستسمح لهم دول مجاورة مثل الاردن ومصر بالمرور عبر اراضيها؟
الدكتور القرضاوي لم يحرّم الزيارة بالنسبة الى الفلسطينيين، بل عن العرب والمسلمين، ولكن اسرائيل لا تريد هؤلاء ولا زيارتهم، بل تريد العرب والاثرياء منهم خاصة، والرئيس عباس يدرك هذه الحقيقة، واذا كان لا يدركها فهي مصيبة كبرى.
الزيارة الوحيدة الشرعية لهؤلاء للمدينة هي ان يذهبوا اليها فاتحين ومحررين، وان يهرعوا لوقف عمليات الاستيطان التي تخنقها، والحفريات التي تهدد المسجد الاقصى واساساته، اما الذهاب اليها كسياح او بغرض الصلاة فهذا قد يؤدي الى زيادة عمليات الاستيطان والحفر.
الحكومات العربية تستطيع دعم صمود اهل القدس بطرق عديدة، ولكنها لا تريد، وان ارادت فلا تستطيع، لأنها تخشى الغضبين الامريكي والاسرائيلي معا. فلماذا لا تقيم هذه الدول مشاريع اقتصادية في المدينة المقدسة؟
ألم يكن 'الفيتو' الامريكي ـ الاسرائيلي هو الذي منع اعادة اعمار قطاع غزة طوال السنوات الثلاث الماضية؟
فإذا كانت اسرائيل وامريكا تمنع اعمار قطاع محاصر مجوّع، فهل ستسمح بدعم عروبة القدس واقتصادها؟
الرئيس عباس ورجالاته يرددون دائما مقولة صلح الحديبية، ويضربون به مثلا للتطبيع، ومقارنة بيت المقدس بزيارة الرسول للمسجد الحرام وهو تحت سيطرة كفار قريش، وهي مقارنة في غير محلها على الاطلاق، فالرسول شيء والرئيس عباس والذين يفتون له شيء آخر، مختلف تماما، وهناك بون شاسع بين الحالتين، لا يمكن اساسا المقارنة بين الحالتين لانعدامها كليا.
' ' '
الرسول (ص) كان من ابناء مكة، وكفار قريش كانوا يمثلون قبيلته التي جاء ليهديها، اما في القدس فهذه المدينة محتلة ومهانة ومذلة من قبل غرباء لا يريدون خيرا للعرب والمسلمين.
فتوى الدكتور القرضاوي ليست مخالفة للسنة النبوية وكتاب الله عز وجل، مثلما قال السيد محمود الهباش وزير الاوقاف الفلسطيني، بل منسجمة معهما تماما، لأنهما يطالبان، اي السنة والقرآن الكريم، ببذل كل الجهود لتحرير الارض واستعادة المقدسات.
عندما يملك الرئيس عباس سلطة القرار بإدخال العرب والمسلمين الى المدينة المقدسة، فإن هؤلاء لن يحتاجوا الى دعوته، وسيهرعون اليها لأداء واجباتهم الدينية وشدّ الرّحال الى اولى القبلتين وثالث الحرمين، اما غير ذلك فلا.
اخيرا نوجه سؤالا للرئيس عباس وهو عما سيفعل لو استغل بعض العرب والمسلمين دعوته هذه وذهبوا الى الارض الفلسطينية المحتلة تحت عنوان زيارة القدس، ثم ذهبوا بعد ذلك الى تل ابيب سواء للعلاج او السياحة والاستمتاع بملاهيها الليلية، وصرفوا مئات الملايين من الدولارات مثلما يفعلون في العواصم الغربية؟
نتمنى على الرئيس عباس ان يراجع فتواه هذه،وليس الدكتور القرضاوي مثلما يطالبه ورجالاته، فالدكتور القرضاوي كان مصيبا، بينما اخطأ الرئيس عباس.
عبد الباري عطوان