تونس ـ (الشروق)
خلافا لما أكده وزير الداخلية التونسي أول أمس على أن هناك مجموعات مسلحة تبغي إقامة إمارة إسلامية بالسلاح، فإن الشارع التونسي خاض جدلا واسعا وتراشقا للتهم وتحليلا وتحريما في مواضيع أخرى تبدو للوهلة الأولى غريبة وعجيبة في طرحها.
هذا الخوض الذي شد إليه كثيرين، سياسيين ومثقفين، شبابا وشيبا، تمحور حول مواضيع «ختان البنات» و«إرضاع الكبير» و«تحليل العبودية»، صدرت من أجله البيانات وجندت لخاطره وسائل الإعلام «البديلة» والتقليدية منها.. وشنت الحروب وجدد العراك و«القذف» و«السب» و«الشتم» بين كثير من التونسيين..
وان ارتبط الخوض في مثل هذه المواضيع بزيارة الداعية وجدي غنيم «مثير الجدل» أينما حل، عند مريديه وناقديه على حد سواء، وخاصة في موقفه من مسألة «ختان البنات»، فانه أثار مواضيع أسالت الحبر كثيرا وأقامت الجدل والخصام أكثر وأكد الأغلبية أن لا علاقة لها بثقافتنا وحضارتنا بخصوصيتها التونسية من مثل «إرضاع الكبير» و«تحليل العبودية» وما إلى ذلك من «الفتاوى» والقضايا الطريفة التي قد تشد لغرابتها أكثر الناس ..
ولكن أن تصبح شغلهم الشاغل (الناس)، ومصدرا تكتب لأجله البيانات، وتخرج عنه المواقف السياسية، وتصبح محل نظر وتفسير وحجة أخرى لمواضيع استقطاب ثنائي، فإن ذلك يطرح مباشرة السؤال حول إن كانت مواضيع مفتعلة أم هي عودة إلى الوراء؟
محسومة
و يؤكد الواقع أن مثل هذه المواضيع حسمت في تونس، فتونس أول دولة عربية ألغت الرق منذ القرن التاسع عشرة وتحديدا في 1864 ومذ كانت البلاد ايالة، ومذ صيغ أول دستور في البلاد العربية سنتها، بل يحضر مجلسنا التأسيسي اليوم، للدستور الثالث في تونس ويطمح التونسيون بأن يدعم ثقافة المواطنة والعدالة والمساواة بين الجميع فيه كجزء من مشمولاته ليعلي قوانين «الجمهورية الثانية».
كما أن مقولات «إرضاع الكبير» و«ختان البنات» هي جزء من ثقافة وليدة أرضها، لم تكن البتة جزءا من ثقافتنا وحضارتنا ولا وليدة أرض تونس مدى قرون وألفيات بل إن المرأة التونسية اليوم تعتبر الأكثر حظا من بين بنات جنسها في مختلف الأقطار العربية لما حققته من مكاسب تكفل حقوقها لا تتلخص فقط في مجلة الأحوال الشخصية بل تعيشها في تفوقها في الجامعات واعتلائها مناصبا ومهنا كانت ومازالت حكرا للرجال في عدد من الدول القريبة والشقيقة…
هي مواضيع محسومة واقعا، بل تجاوزها الوعي الاجتماعي درجات كثيرة، فلما تطرح اليوم بالذات؟
افتعال
فنظرا لطبيعة هذه المواضيع الغريبة والشاذة التي لم تكن مطروحة أصلا في تونس، فان كثيرين يذهبون إلى أنها مواضيع «مفتعلة» اليوم، احتلت جزء من اهتمام الرأي العام، فصرفت اهتمامه عن ما الت اليه الأوضاع بعين دراهم وسليانة وما أتى أهلها من جوع وعري وبرد بعد أن عزلت الثلوج هذه المناطق بدل الانكباب على جمع التبرعات والحث على المساعدة والتضامن الحقيقي ـ دون حسابات ولا توظيف ـ بين أهل الوطن الذي يظهر في مثل هذه الظروف..
بل صرفت أهل البلاد عن الاهتمام بما يحدث فيها، من أمر خطير بعد اكتشاف أمننا لمجموعة إرهابية يتوقع أن لها علاقة بتنظيم القاعدة، فبدل تجييش الناس للوقوف صفا واحدا وراء قوات الجيش الوطني والأمن الوطني الساهر لحماية البلاد ومساعدتهما على تطويق هذه المجموعة، ونشر الوعي بضرورة إرجاع السلاح الذي مازال في يد البعض..يخوض الخائضون في مسألة «إرضاع الكبير» و«ختان البنات».
عودة إلى الوراء
وان تجاوزت البلاد في الأيام القليلة الماضية، أزمة قسمت الشارع إلى نصفين، وتصعيدا كاد يوشك أن يصبح خطرا وحجر عثرة في طريق الديمقراطية الفتية التي تبحث عن بوصلته مختلف مكونات البلاد.. وعادت الأمور إلى الهدوء فتحركت الحكومة، والتقى المتخاصمون وتجاوز الشارع هذه «الفترة الحرجة»، فان طرح مسائل مثل هذه «ختان البنات» و«تحليل الرق» و«إرضاع الكبير» وما أثارته مواضيع مثلها «هامشية» أعادت البلاد إلى الوراء والى مربع الانقسام والتطاحن والسب والشتم، أكيد لن تخدم أمن البلاد واستقرارها الاجتماعي ولن «تصرف» أغطية وطعاما لأهل عين دراهم وسليانة المنكوبين….ولكن الذي يثير الحيرة من يخدم «التصعيد» و«التجاذب» عن طريق مثل هذه المواضيع؟
أيمن الزمالي