بعد أن ضاقت به السبل والحيل باع سامي .م ذو 18 سنة كل أثاث عائلته الفقيرة التي تسكن في حي التضامن الشعبي شمال تونس العاصمة الذي يعد أكثر من 500 ألف ساكن نزحوا من الأرياف، ولم يترك لأمه فاطمة .م حتى آلة الطبخ، ولم يبق في البيت ذي الغرفتين سوى حشية واحدة بالية ملقاة على الأرض تفترشها أمه التي ارتسمت على وجهها تجاعيد الستين عاما وزادها الفقر والخصاصة مسحة من الحزن والألم .
ولا يتردد سامي في تعنيف أمه لفظيا وجسديا حين لا تقدم له ما يطلبه من المال لا لشراء لوازم الدراسة أو الاكلن وإنما لشراء ما يكفيه من المخدرات التي أدمن عليها منذ أن بلغ سن 16 سنة.
لم يتسبب سامي في نهش عائلته ماديا فقط بل تسبب أيضا في تفكيك أسرته حيث طلق أبوه أمه بعد أن حملها مسؤولية إدمان فلذة كبده على تعاطي المخدرات وهي من ذلك براء.
وبدأت رحلة سامي في تعاطي المخدرات في سن المراهقة فكان ضحية، شأنه في ذلك شأن الكثير من الشباب التونسي، عملية صيد ماكرة لأحد الباعة المتجولين، من مروجي المخدرات.
يقول مطأطئ الرأس « كنت أشتري سيجارة كل صباح وأنا في طريقي إلى المعهد من أحد الباعة المتجولين، كانت في البداية سجائر عادية لكن بعد أن تعرف علي كزبون باع لي ذات يوم سيجارة ولما دخنتها أحسست بالنشوة وبشيء من الدوار« .
وأضاف « لما عدت له من الغد باع لي سيجارة عادية فطلبت منه أني أريد سيجارة تشبه سيجارة الأمس » فأجابني « أن السيجارة التي طلبتها موجودة لكن عليك أن تدفع خمسة دنانير« .
وتابع سامي « لقد ذهلت لأن سعرها يعادل سعر علبة كاملة من السجائر الفاخرة ولكني رغم ذلك اشتريتها ومن يومها تعودت على تعاطي المخدرات« .
وقضى سامي سنة سجنا بتهمة تعاطي المخدرات وهو يتردد اليوم على المراكز الصحية في محاولة منه للعلاج من الإدمان.
ليس سامي حالة استثنائية في المجتمع التونسي الذي تفككت بناه الاجتماعية وتمزقت قيمه الثقافية، بل هو عينة لآلاف الشباب من الجنسين في المعاهد الثانوية وفي الجامعات والأمر أشد وأنكل في صفوف الشباب العاطل الذي التجأ لتعاطي المخدرات لتسكين همومه وآلامه.
وتبدو المعطيات الإحصائية عن عدد الشباب المدمن على تعاطي المخدرات بأنواعها شحيحة وغير دقيقة إلا أن المتخصصين في معالجة المدمنين وكذلك بعض الجهات الرسمية تقدر أن نسبة الشباب المدمن على تعاطي المخدرات شهدت خلال أشهر ثورة 14 جانفي/يناير 2011 تزايدا « مفزعا » تتراوح بين 10 و20 بالمائة وهي أكثر ارتفاعا لدى المراهقين العاطلين.
ولا يقتصر تعاطي المخدرات على الشباب العاطل عن العمل بل أخترق جدران المعاهد الثانوية والجامعات لينتشر لدى التلاميذ والطلبة من الجنسين .
كما أنه لا يقتصر على أبناء الأحياء الشعبية بل استشرى أيضا في الإحياء الراقية.
تقول رفاف.ك ذات 20 سنة تدرس العلوم الاقتصادية وهي سليلة عائلة ميسورة تقطن بحي المنزه (احد الأحياء الراقية في تونس العاصمة) أن رحلتها مع تعاطي المخدرات بدأت منذ سن 17 سنة، « لقد كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في مدينة الحمامات رفقة صديقاتي، وكنا نسهر إلى الصباح، وخلال السهرة تعودنا على تعاطي أنواع كثيرة من المخدرات إضافة طبعا إلى الكحول« .
وساعدت حالة الانفلات الأمني والاجتماعي التي تعيشها البلاد مروجي المخدرات على استقطاب قطاعات واسعة من الشباب مستغلين في ذلك هشاشة الوضع الاجتماعي وحالة الارتباك التي يعيشها المجتمع منذ الثورة.
يقول أستاذ علم الاجتماع النفسي نزار المرايحي إن « التداعيات السلبية لثورة 14 جانفي كان لها أثر كبير لدى الشباب بصفة خاصة حيث تفككت منظومة القيم المرجعية وفتحت المجال أمام ممارسات ‘منفلتة’ عن كل ما هو ممنوع أو حرام » .
ويضيف « علينا أن نتناول الوضع الاجتماعي والنفسي للمجتمع التونسي في إطار هذا المناخ الضبابي الذي بدت فيه الآفاق مسدودة أمام الشباب الذي وجد نفسه إما مدمنا على الكحول والمخدرات أو مدمنا على الأفكار السلفية« .
ويضيف المرايحي « لا يجب من الناحية العلمية الفصل بين من يهرب من قسوة الواقع وضغطه إلى تعاطي المخدرات وبين من يهرب إلى الأفكار السلفية، فكلاهما ضحية غياب حلول ناجعة لمشاكل مستعصية يتخبط فيها التونسيون عامة وهي تفتك بالمراهقين والشباب نتيجة انسداد الآفاق أمامهم« .
وخلال أشهر الثورة أعلنت السلطات التونسية في أكثر من مرة أنها تمكنت من إلقاء القبض على عدد من عصابات مروجي المخدرات يتراوح عدد كل عصابة واحدة بين 6 و10 أفراد وتتراوح كميات المخدرات التي بحوزة كل عصابة بين 10 و20 كيلو غرام .
واستغل مروجو المخدرات الانفلات الأمني على الحدود الجزائرية والليبية منفذا آمنا للدخول إلى تونس وترويج شتى أنواع المواد المخدرة بالبلاد.
وأظهرت المؤشرات الإحصائية لدى مراكز معالجة المدمنين أن تعاطي المخدرات في تونس أستفحل بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة في الأحياء الشعبية مثل « حي التضامن » و »حي الزهور » و »حي الملاسين » وكذلك في الأحياء الراقية مثل « حي النصر » و »حي المنزه« .
غير أن نوعية الإدمان تختلف بحسب الإمكانيات المادية، ففي حين يدمن أبناء الأحياء الشعبية على تعاطي الحشيش والأقراص و »الكولا » (مادة لاصقة تعطي مفعول المخدر حين استنشاقها) يدمن أبناء الأحياء الراقية على تعاطي الهيروين.
وبحسب الدكتورة جودة بن عبيد رئيسة جمعية « أتيوس » المتخصّصة ورئيسة قسم علاج الإدمان بجبل الوسط فإن ظاهرة الإدمان على تعاطي المخدرات انتشرت في مفاصل المجتمع التونسي مشيرة إلى أن ما يبعث على القلق هو أن المركز الذي تشرف عليه، وهو الوحيد من نوعه، قد أغلق.
وتضيف الدكتورة جودة « أنه بعد غلق هذا المركز لم تعد هناك جهات واضحة تقدم النصح والتوجيه ما عدا بعض الجمعيات الناشطة في المجال وهي عاجزة عن النصح باعتبار أنه حاليا لا يوجد مؤسسة صحية تقبل المدمنين للعلاج« .
وأطلق المربون صيحة فزع إلى الحكومة والأولياء لمساعدتهم على التصدي لهذه الظاهرة بعد أن تأكدوا من وجود شبكات متخصصة في ترويج المخدرات بأنواعها في المعاهد الثانوية وفي الجامعات.
وتؤكد الدكتورة جودة أن أكثر المواد المخدّرة انتشارا في تونس حاليا هي « الحشيش » وأقراص تصنع لعلاج الإدمان من الهيروين تدعى «شيبيتاكس» يتم إدخالها إلى البلاد بصفة غير شرعية وتداولها لا كعلاج بل كمادة مخدّرة.
وحذرت جودة من أن هذه المادة انتشرت بحدّة في تونس منذ الثورة، واستغلال المهربين للوضع المضطرب في البلاد.
و يعدّ استنشاق « الكولة » وشرب الكحول بعد مزجها بمواد أخرى من أخطر أنواع المواد التي يستعملها الشباب التونسي للتخدير ذلك أنها تقتل الخلايا في الدماغ وتوصل مستهلكها الى الشلّل.
ويتسبب استهلاك مواد مخدّرة عبر الحقن في تفشي أمراض ذات كلفة ثقيلة أهمها « السيدا » و »البوصفير »، ذلك أن مرض « السيدا » لوحده يكلف سنويا كل مريض نحو 10 آلاف دينار أي حوالي حوالي8 الاف دولار.
وفي ظل غلق مركز »أمل » الوحيد في معالجة المدمنين لم يبق أمام المدمنين سوى السجن في حالة اكتشاف أمرهم وهو حل أمني غير ناجع، ما حدا بالدكتورة جودة إلى دعوة السلطات لإعادة فتح المركز « لأنه من الأجدر أن يخضع المدمن للتداوي خلال فترة سجنه وبعدها« .
المصدر : ميدل ايست أونلاين